فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة. ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآية، وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: «إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه» وفي رواية في الصحيح «إني خيرت فاخترت» وفي رواية «لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت». اهـ.
فائدة: في الحض على الصدق والتصديق:

.قال الألوسي:

وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضًا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير، وقيل: إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن على بعد بعيد ذلك التحريض، ولا يرد على تحريم الكذب في بعض وجوهه ما روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول: «لست لها إني كذبت ثلاث كذبات» وعنى كما في رواية أحمد {إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 98] و{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63].
وقوله للملك في جواب سؤاله عن امرأته سارة: هي أختي حين أراد غصبها، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟ا وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحي أن أشفع، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد صدرت من سيد أولي العصمة صلى الله عليه وسلم كقوله مما في حديث الهجرة، وتسميته كذبًا على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء، ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة فلعدوله عن الأولى بمقامه عد ذلك في ذلك المقام ذنبًا وسماه كذبًا لكونه على صور، وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحي منه فلكل مقام مقال، على أنا نقول إنها لو كانت كذبًا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح» لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه.
وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال: أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ، ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض كأصبح يقول كذا، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم ومعناه أنه في الماضي كان مستمرًا متجددًا بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عد الاستمرار من معاني كان فلا إشكال في {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} حيث دلت كان على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن كان دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة ويكذبون دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. اهـ.
لطيفة: أمراض القلب:

.قال أبو حيان:

وقد تلخص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضًا، وهي: الرين، والزيغ، والطبع، والصرف، والضيق، والحرج، والختم، والإقفال، والإشراب، والرعب، والقساوة، والإصرار، وعدم التطهير، والنفور، والاشمئزاز، والإنكار، والشكوك، والعمى، والإبعاد بصيغة اللعن، والتأبى، والحمية، والبغضاء، والغفلة، والغمزة، واللهو، والارتياب، والنفاق.
وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد والحسد، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}.
في قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضًا بتوهمهم أنهم نجوا بما لبَّسوا على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يَخْلُص وجعه إليهم في المآل. وفي الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظِّه، وشاب إرادته بهواه أن يتقدم في الإرادة بِقَدَم، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النَفْس بأخرى، فهو لا مريدٌ صادقٌ ولا عاقلٌ متثبت. ولو أن المنافقين أخلصوا في عقائدهم لأَمِنوا في الآخرة من العقوبة كما أَمِنوا في الدنيا من نحو بذلك الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة، كذلك لو صدق المريد في إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبُغية، ولكن حاله كما قيل:
فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف ** ولو خلصنا تخلصنا من المحن

وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القُرْبِ والمناجاة. وأمَّا من ركن إلى الدنيا واتَّبع الهوى فسكونُهم إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة في علتهم تكون بزيادة حرصهم؛ كلما وجدوا منها شيئًا- عَجَّلَ لهم العقوبة عليه- يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه.
ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتتُ همومهم ثم تَبَغض عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفي معناه قيل:
تبدلت فتبدلنا واحسرتا ** لمن ابتغى عوضًا ليسلو فلم يجد

والإشارة في العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هي الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأَوْا أنفسهم كيف خسروا. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}.
قال ابن عرفة: هذا احتراز لأنه لما أخبر عنهم أنهم يخادعون الله، والمخادع على نوعين فالغالب عليه أن يكون صاحب فكر ونظر ودهاء يدبر الأمور التي يخدع بها عدوه، ومنهم من يخادع على غير أصل وذلك موجب الاستهزاء به وعلامة على سخافة عقله فأخبر الله تعالى أن المنافقين من القسم الثاني.
وقال الطبري: إن في اعتقاد قلوبهم مرضا.
قال ابن عرفة: بل المرض في القلوب أنفسها كما قلناه.
قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا}.
الفاء للسبب وفيه العقوبة على الذنب بذنب أشدّ منه.
فإن قلت: هذا مرض واحد والزّيادة عليه إن كانت مثله لزم اجتماع المثلين في المحلّ الواحد وهو باطل كما يمتنع اجتماع الضدّين والنَّقيضين: فأجيب بوجوه:
الأول: قال ابن عرفة: إنّما يمتنع ذلك في الواحد بالشّخص وهذا واحد بالنّوع أو بالجنس، فاشتركا في جنس المرض وتغايرا في الفصل واجتماع الغيرين جائز.
الثاني: قال ابن عرفة أيضا: الضّمير في زادهم عائد على ذواتهم لا على قلوبهم، إذ لو كان عائدا على القلوب لقال فزادها الله مرضا وهو أولى.
فإن نزل المرض بجميع ذواتهم فمحلّ الثاني أوسع من محلّ المثل الأوّل فصحّت الزّيادة، ولا يلزم منه اجتماع المثلين إلاّ أن يقال: إنّه على حذف مضاف تقديره فزاد الله قلوبهم مرضا.
الثالث: قال بعض الطّلبة: ذكر الإسفراييني وغيره في صحّة اجتماع المثلين أنه يخلق جوهرا آخر يكون فيه المثل الآخر زيادة في نعيم المنعّم وعذاب المعذّب.
قال ابن عرفة: إنّما ذلك في المثلين حقيقة، وهذان مختلفان في الفصل بينهم غير أنّ كما تقدم لا مثلان.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
إما بمعنى مؤلم كقولك: تحية بينهم ضرب وجيع، أو بمعنى مؤلَّم، فيكون الألم حالا بالعذاب مجازا أو تنبيها على شدّته مثل: جَدّ جِدّه، وشِعْر شَاعر. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} عُهِدَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ، وَالْمَرَضُ هُوَ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ فَيُضْعِفُ تَعَلُّقَهَا وَإِدْرَاكَهَا، وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ مِنْ أَعْرَاضِ هَذَا الْمَرَضِ، فَهُوَ ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ فَتَقِفُ بِشُعَاعِهِ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى مَا وَرَاءِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ. وَهَذَا النُّفُوذُ: هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي يَسُوقُ النَّفْسَ إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ فَقْدِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [7: 179] وَرُبَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْوُجْدَانِ الَّذِي هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ لَكَ ذَلِكَ بِمَا تَجِدُهُ مِنَ اضْطِرَابِ قَلْبِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ أَوِ اشْتِدَادِ الْفَرَحِ، فَإِنَّكَ تُحِسُّ بِزِيَادَةِ ضَرَبَاتِهِ وَشِدَّةِ نَبَضَاتِهِ فَصُورَةُ الِاعْتِقَادِ إِذَا تَنَاوَلَهَا الْعَقْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ فَجَعَلَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الدِّمَاغِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي الْوِجْدَانِ، وَاعْتِقَادٌ لَا يَصْحَبُهُ هَذَا السُّلْطَانُ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا التَّأْثِيرُ، لَا يَعْتَدُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَفِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ- كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا- فَمَنْ لَمْ يَطْرُقِ الْإِيمَانُ قَلَبَهُ بِقُوَّةِ الْبُرْهَانِ وَلَمْ يَحْلُ مَذَاقُهُ مِنْهُ فِي الْوُجْدَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْمُصَرِّفَ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَمَرَّنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَنْ فَهْمٍ وَإِخْلَاصٍ، حَتَّى يَحْدُثَ لِقَلْبِهِ الْوِجْدَانُ الصَّالِحُ، فَأَهْلُ الْيَقِينِ يَبْعَثُهُمْ يَقِينُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ تُلْحِقُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ بِأَهْلِ الْيَقِينِ فِي الِانْتِفَاعِ بِإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي تَحْكِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَتَصِفُهُ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ، قَدْ فَقَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِهِمَا، فَمَنْ فَقَدَهُمَا مَرِضَ وَلَا يَلْبَثُ مَرَضُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَلِضَعْفِ الْعَقْلِ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا: مَا هُوَ فِطْرِيٌّ كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبَلَهِ وَالْعَتَهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ وَلَا يُلَامُ.
وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّرْبِيَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ، وَإِنَّمَا يَكْتَفُونَ بِمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، وَيَرَيْنُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَعْتَنُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ تَمْزِيقِ هَذِهِ الْحُجُبِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ السُّحُبِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ مُخَدِّرَاتِ الْعِرْفَانِ وَنُجُومِ الْفُرْقَانِ وَشُمُوسِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [43: 23] حَتَّى يَجِيءَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ:
{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [33: 67].
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَرَضَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: خُرُوجُ الْبَدَنِ عَنِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ وَصِحَّةِ أَعْضَائِهِ فَيَخْتَلُّ بِهِ بَعْضُ وَظَائِفِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَتَعْرِضُ الْآلَامُ لَهَا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اخْتِلَالِ مِزَاجِ النَّفْسِ، وَمَا يُخِلُّ بِكَمَالِهَا مِنْ نِفَاقٍ وَجَهْلٍ، وَارْتِيَابٍ وَشَكٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَاضْطِرَابِ حُكْمِ الْعَقْلِ وَفَسَادِ الْخَلْقِ، وَالْمَرَضُ هُنَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَخَصَّهُ شَيْخُنَا بِمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ وَبَيَانِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ عِنْدَمَا كَانُوا فِي فَتْرَةٍ حَظُّهُمْ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ أَلْفَاظِهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ إِقَامَةُ صُوَرِهَا.
{فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُنِيرُ بِبَعْثَةِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَوَجَدُوا مِنْهُ زَعْزَعَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَأَبَوُا الْإِيمَانَ، وَنَبَوَا عَنِ الْقُرْآنِ وَزَادَ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ شُعَاعُ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَمًى فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَرَضًا عَلَى مَرَضِهِمْ.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فَوْقَ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، و{أَلِيمٌ} صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ أَلَمَ يَأْلَمُ فَهُوَ أَلِيمٌ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ نَفْسُهُ.
{بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَالِهِمْ.
أَقُولُ: وَأَمَّا مَرَضُ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ فَهُوَ الشَّكُّ فِي نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَعَنْ بَعْضِ تَلَامِيذِهِ: الرِّيَاءُ، وَحَسْبُكَ فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [9: 124- 125].
أَقُولُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {يَكْذِبُونَ} بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يُكَذِّبُونَ} بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْحِكْمَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: إِثْبَاتُ جَمْعِهِمْ لِلرَّذِيلَتَيْنِ، أَيِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالثَّانِيَةُ سَبَبُ الْأُولَى، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَالْعَذَابُ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِمَا مَعًا، أَيْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَعَلَى الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَهُوَ النِّفَاقُ، وَهَؤُلَاءِ فِي بَاطِنِهِمْ شَرٌّ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنَادًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُكَذِّبُونَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْحَدُونَ جُحُودَ اسْتِكْبَارٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [6: 33].
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْعَذَابُ فِيهَا مَقْرُونٌ بِالْكَذِبِ لَا بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ يُقَالُ: لِمَ جُعِلَ الْعَذَابُ جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْكَذِبِ فِي التَّعْبِيرِ لِلتَّحْذِيرِ عَنْهُ، وَبَيَانِ فَظَاعَتِهِ وَعِظَمِ جُرْمِهِ، وَلِبَيَانِ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ مُشْتَمَلَاتِهِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي غَايَاتِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ الْقُرْآنُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَشَا الْكَذِبُ فِي قَوْمٍ إِلَّا فَشَتْ فِيهِمْ كُلُّ جَرِيمَةٍ وَكَبِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ قَبِيحًا إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلِهِ وَمِنْهُ. اهـ. بِالْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ. اهـ.